“ممنوع استخدام الهواتف في المدرسة”. أردّد هذه العبارة يوميًّا، وأنفّذ السياسة المدرسيّة بمصادرة أيّ هاتف أراه. لكن في كلّ مرّة أمدّ يدي لأخذ هاتف من طالب، يصرخ صوت في داخلي: “ألست أنت من يقضي مددًا على هاتفك، تتنقّل بين التطبيقات، وتستمتع بالألعاب الإلكترونيّة؟”
هذا الصراع الداخليّ دفعني إلى البحث، فصرت أقرأ كلّ ما أجده عن تأثير الألعاب الإلكترونيّة في الدماغ. وما اكتشفته كان مدهشًا حقًّا. ليست المسألة بيضاء وسوداء كما كنت أظنّ، وكما يظنّ معظم المعلّمين وأولياء الأمر.
في حصص الفراغ، تجمعنا أحاديث عن الألعاب الإلكترونيّة. أخبرهم عن تجربتي مع لعبة المتاهات الّتي أدمنتها مؤخّرًا، ويشاركونني حماسهم عن ألعابهم المفضّلة. نتناقش في استراتيجيّات اللعب وأساليب حلّ المشكلات، من دون أن نلمس هواتفنا. هذه المحادثات فتحت عينيّ على عالمهم، وجعلتني أفهم كيف يفكّرون.
في غرفة المعلّمين، نتحدّث دائمًا عن كيف “جيل اليوم” مدمن على الشاشات. لكن ألا نفعل الشيء نفسه؟ بين تصفّح مواقع التواصل الاجتماعيّ، ومشاهدة المسلسلات، وحتّى الألعاب البسيطة الّتي تملأ وقت الفراغ، نحن أيضًا نقضي مددًا طويلة أمام شاشات هواتفنا.
الفرق الوحيد هو أنّنا، نحن المعلّمين وأولياء الأمر، في الأربعينيّات أو ما فوق. وهنا تكمن المفارقة المثيرة: تشير الأبحاث الحديثة إلى أنّ الألعاب الإلكترونيّة قد تكون مفيدة بشكل خاصّ لدماغ الإنسان في هذا العمر. فمع تقدّمنا في السنّ، تبدأ خلايا الدماغ في التباطؤ، وتصبح الوصلات العصبيّة أقلّ مرونة.
الدراسات العلميّة تقدّم نتائج مذهلة في هذا المجال. فقد أظهرت الأبحاث أنّ ممارسة ألعاب معيّنة مدّة 30 إلى 60 دقيقة يوميًّا يمكن أن تؤدّي إلى تحسّن ملحوظ في وظائف الدماغ. فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أنّ اللاعبين المنتظمين أظهروا تحسّنًا في الذاكرة قصيرة المدى بنسبة تصل إلى 15%، وزيادة في سرعة معالجة المعلومات بنسبة 12%.
ولعلّ الأكثر إثارة للاهتمام هو تأثير الألعاب في مرونة الدماغ. فقد أظهرت دراسات التصوير العصبيّ زيادة في كثافة المادّة الرماديّة في مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة المكانيّة والتخطيط الاستراتيجيّ لدى البالغين الّذين يمارسون ألعابًا إلكترونيّة بانتظام.
حتّى ألعاب المغامرات البسيطة، الّتي قد نراها مضيعة للوقت، لها فوائدها. فهي تحسّن التناسق البصريّ الحركيّ، وتعزّز القدرة على اتّخاذ القرارات السريعة. وقد وجدت دراسة حديثة أنّ كبار السنّ الّذين يمارسون هذه الألعاب يظهرون تحسّنًا في زمن ردّ الفعل يصل إلى 20%.
لكنّ المشكلة الحقيقيّة ليست في الألعاب نفسها، بل في طريقة استخدامها. فعندما يمضي الطالب مددًا متواصلة في اللعب، متجاهلًا واجباته وعلاقاته الاجتماعيّة، هنا يكمن الخطر. وعندما نستخدم حرمان الطالب من هاتفه عقابًا، نحن في الواقع نفوّت فرصة للتواصل والتعلّم المشترك.
ما لم نكن ندركه هو أنّ هذه الألعاب يمكن أن تكون جسرًا بين الأجيال. فالأبحاث تشير إلى أنّ اللعب المشترك بين الآباء والأبناء يعزّز الروابط العائليّة ويحسّن التواصل بين الأجيال. كما أنّه يوفّر فرصة فريدة للآباء لفهم عالم أبنائهم الرقميّ.
الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنّ الدماغ البشريّ يحتفظ بمرونته حتّى في سنّ متقدّمة. فقد أظهرت دراسة أُجريت على مدى عامين أنّ البالغين فوق سنّ الخمسين الّذين يمارسون ألعابًا تتطلّب التفكير المنطقيّ وحلّ المشكلات يحافظون على قدراتهم المعرفيّة بشكل أفضل من أقرانهم.
ربّما حان الوقت لإعادة النظر في سياساتنا المدرسيّة والمنزليّة تجاه الهواتف والألعاب الإلكترونيّة. فبدلًا من المنع المطلق، يمكننا البحث عن طرق لدمج هذه التقنيّات في التعليم والحياة الأسريّة بشكل صحّيّ ومفيد. نحتاج إلى حوار صريح بين المعلّم/المعلّمة والأهل والطالب/الطالبة، حوار يعترف بالتحدّيات ويبحث عن حلول مبتكرة.
في النهاية، قد تكون المفارقة الأكبر هي أنّ الألعاب الإلكترونيّة، الّتي نراها اليوم مصدرًا للمشكلات، يمكن أن تكون في الواقع فرصة للتعلّم والنموّ، ليس فقط لأبنائنا، بل لنا نحن الكبار أيضًا. ربّما آن الأوان لنتوقّف عن النظر إلى الهواتف عدوًّا يجب محاربته، ونبدأ في تعلّم كيفيّة الإفادة منها بشكل أفضل، جميعنا معًا.