منذ أن خطا الإنسان خطواته الأولى على الأرض، كان لكلّ اختراع ثوريّ وجهان: وجه مشرق يحمل الوعود، ووجه مظلم يخفي المخاطر. وكما أنّ النار الّتي اكتشفها الإنسان قديمًا كانت نعمة للطهي والتدفئة ونقمة حين تخرج عن السيطرة، فإنّ الذكاء الاصطناعيّ – هذا الاختراع الثوريّ – يحمل في طيّاته مكاسب عظيمة ومخاطر علينا أن نعيها جيّدًا.

في الأسابيع القليلة الماضية، ربّما وصلتكم رسالة من قسم التكنولوجيا في المدرسة تحذّر من أحد محرّكات الذكاء الاصطناعيّ الّذي يتجاوز كلّ الحدود المعقولة. محرّك يمكن أن يستجيب لأيّ طلب دون تمييز، ويقدّم معلومات قد تكون خطرة، ويتفاعل مع مستخدميه بطريقة قد تخلق تعلّقًا عاطفيًّا غير صحّيّ. لكنّ الحقيقة أنّ المخاطر أعمق وأقدم من ذلك بكثير، فقبل إطلاق هذا المحرّك بسنوات، كانت هناك أدوات ذكيّة تثير القلق وتستحقّ انتباهنا.

تخيّلوا معي مشهدًا: هاتف ذكيّ في يد مراهق، وبضغطة زرّ واحدة، يمكن أن تتحوّل صورة بريئة إلى محتوى مزيّف يؤذي سمعة صديق. أو فيديو يظهر فيه شخص يقول كلامًا لم يقله قطّ، لكنّه يبدو حقيقيًّا تمامًا بفضل تقنيّة “التزييف العميق”. بل الأخطر من ذلك، يمكن لهذه التقنيّات أن تنتحل شخصيّة إنسان حقيقيّ – معلّم، أو صديق، أو شخصيّة مشهورة – وتتحدّث بأسلوبه نفسه، أو تخلق شخصيّة وهميّة كاملة لها حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعيّ وصورها وقصصها المقنعة.

ولعلّ أكثر ما يثير القلق هو قدرة هذه التقنيّات على استغلال مشاعرنا الإنسانيّة. تخيّلوا شخصًا فقد عزيزًا، فيلجأ إلى برنامج ذكيّ يصنع له نسخة رقميّة من هذا العزيز، تتحدّث مثله، وتتفاعل معه، حتّى يتعلّق بها عاطفيًّا. أو شابًّا يقع في شرك علاقة وهميّة مع شخصيّة اصطناعيّة صُمّمت خصّيصًا لاستدراجه. هذه ليست مشاهد من فيلم خيال علميّ، بل هي واقع يتشكّل أمام أعيننا.

وفي عالم الاحتيال الإلكترونيّ، يفتح الذكاء الاصطناعيّ آفاقًا جديدة للمحتالين. فبدلًا من الرسائل المليئة بالأخطاء اللغويّة الّتي تعوّدنا عليها، يمكنهم الآن إنشاء محادثات مقنعة تمامًا، وشخصيّات متكاملة، وقصص محبوكة بعناية تجعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والخيال.

حسنٌ، أمام كلّ هذه المخاطر، ماذا علينا أن نفعل؟

الخطوة الأولى والأهمّ هي الوعي. فكما يقال: “العدوّ الّذي تعرفه خير من العدوّ الّذي تجهله”. مجرّد معرفتنا بهذه المخاطر تجعلنا أكثر حذرًا من التسرّع في تصديق ما نراه أو نسمعه أو نتداوله. وكما نجحت المدارس سابقًا في نشر الوعي بمخاطر التنمّر الإلكترونيّ وأهمّيّة الحفاظ على البصمة الرقميّة نظيفة، حان الوقت للتصدّي لمهمّة جديدة: التوعية بمخاطر الذكاء الاصطناعيّ وكيفيّة التعامل معها بحكمة.

علينا أن نغرس في أبنائنا وطلّابنا مهارات التفكير النقديّ. أن نعلّمهم ألّا يصدّقوا كلّ ما يرونه على الإنترنت، وأن يتحقّقوا من مصادر المعلومات، وأن يدركوا أنّ التكنولوجيا – مهما بلغت من التطوّر – هي مجرّد أداة. وكأيّ أداة، يمكن استخدامها للخير أو للشرّ. المفتاح هو التعامل معها بوعي وحكمة، والتأكّد من أنّنا – وأبناءنا – نعرف كيف نستفيد من إيجابيّاتها ونتجنّب مخاطرها.

كما أنّ علينا أن نتذكّر دائمًا أنّ ما يميّزنا كبشر هو قدرتنا على التفكير المستقلّ، والتعاطف الحقيقيّ، وبناء علاقات إنسانيّة عميقة. هذه الصفات لا يمكن لأيّ ذكاء اصطناعيّ أن يحاكيها بصدق، مهما بلغت درجة تطوّره.

لمعرفة المزيد حول هذه الأمور ومواكبة آخر التطوّرات، نوصي بمتابعة بودكاست “صندوق أسود” (Black Box) من إنتاج صحيفة الجارديان، الّذي يناقش هذه القضايا بعمق وموضوعيّة، ويقدّم نظرة ثاقبة إلى مستقبل علينا أن نستعدّ له جيّدًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *